عندما تحدثت عن عمليات القبض العشوائية, إنتبهت أنَّ كثيرا من المحبوسين في سجون الداخلية أصغر مني بعشر سنين على الأقل,
فعلَّق صديق بأنه يلاحظ صغر سنهم أيضا, ثم أضاف " لسه ما وعيوش على الدنيا " لم يلحظ إلا أنهم " لم يعووا على الدنيا ", لكنه لم يلحظ أن السلطة التي تحبسهم مُجرمة, إلا لو كانت تحبسهم بغرض توعيتهم.
أخبرته أنهم ينُظفون وساخات تركتها أجيالٌ قديمة, ركنوا للظلم و الاستعباد و الخوف, و تركوا الفساد ينتشر حتى أصبح الأصل.
هؤلاء الصغار هم أعظم من فينا.
يبدو أنه لم يقتنع.
***
من الشائع بمكان, جلسات الإستتابة التي يتعرض لها كل من عارض مبارك و مجلس طنطاوي, أو يعارض السيسي الآن وسلطته,
تلك الجلسات أصبحت عامل مشترك بين جميع هؤلاء الذين انضم بعضهم للثورة عندما نجحت, هللوا لها, سبَّوا النظام الساقط, حيوا الشباب الذي حررهم, ثم عندما حمى وطيس معركة الثورة مع ضدها, إختاروا صفهم, فإما وقفوا في صف السلطة ضد الثورة, أو عادوا إلى صفوف الساكتين, عودا أحمدا.
و البعض كره الثورة من أول يوم, و وجد الآن ضالته, نعم نحن نكره ثورتكم, و نؤمن بأنها مؤامرة.
الصفوف تمت تذكيتها بدماء الشهداء, رحل من رحل, و بقت الصفوف متفرقة تنتظر الإصطفاف لنقيم الصلاة..
سنُكبِّر أربعا على نظامكم.
هذا وعد.
***
قُبيل الثلاثين من يونيو, إشتدت الأزمات, و خُنقت البلد, و كثرت دعوات النزول لإزالة نظام الإخوان, كان البعض يحشد لذلك اليوم لأن " الإخوان باعوا الثورة ", و البعض يحشد لأنهم " يريدون ديكتاتورا على هواهم, فهم لا يروون مشكلة في الإستبداد لكن عندهم مشكلة مع شخص المستبد" و البعض حشد " لأن النيل سيجف و الهرم هيتخرم و قناة السويس هتفتح وصلة جديدة على قطر "
حسنا .. كلهم حشدوا, و من ضمنهم كانت الحركات الثورية التي حشدت و هي متخوفة من تربص قوى الثورة المضادة بالحركة الشعبية إنتظارا لركوبها.
وائل غنيم, أدمن صفحة من أكبر صفحات الفيس بوك, و هو شخص شهير يستطيع المساعدة في الحشد بطريقة كبيرة,
وائل حشد لثلاثين يونيو عن طريق صفحته صاحبة الثلاثة مليون متابع و نيف
و سجل فيديو يدعو الناس فيه للنزول إلى الشوارع.
و بعد الثالث من يوليو, ابتعد, سكت, لم يُعلِّق على شيء, لم يتحدث لأحد, تقوقع في حياته الشخصية و ابتعد عن الأضواء,
و أياً كانت أسبابه, لم يشفع له ذلك عند كهنة صكوك الغفران و أرباب الإستتابة,
فعندما أُذيعت له مكالمة تليفونية ليس بها أي شيء غير محادثات عادية, تغاضوا عن فكرة التسجيل, و فكرة التسريب, و عن فكرة حشده ضد " النظام الإخواني العميل", بل و رموا غنيم بالعمالة أيضا, و العجيب إن كان غنيم عميل فلماذا خرج على العملاء ليسقطهم؟ إنها حقا عمالة غريبة.
كانوا يريدون من غنيم ألا يكتفي بالسكوت, كانوا يريدونه أن يأتي و يسجد, و يطلب المغفرة, و يترجاهم أن يحرروه من الإثم,
لكنه لم يفعل و سكت.
و إن كان ذلك السكوت لم يشفع له, فلم يشفع لمصطفى النجار شيءٌ أيضا,
لم يشفع أنه نزل إلى الإتحادية في الثلاثين من يونيو على رأس مسيرة كان بها ضباط داخلية, دون هتاف " الداخلية بلطجية " الذي إعتاد على هتافه الثوار الذين يُعانون من " مراهقة ثورية " حسب وصف الشوبكي في مقاله الذي يدافع عن النجار فيه
و لم يشفع له أنه لم يكن من هتيفة " يسقط حكم العسكر " كما تابع الشوبكي عنه,
لم يشفع له معارضة الإخوان, و توقيعه على وثيقة عنان, و مشاركته في كل إستحقاق إنتخابي بحثا على إستقرار يتوهمون جميعا انه سيأتي عبر صندوق لا يمنع الظلم و القمع و الاستبداد.
لم يشفع عند كهنة صكوك الغفران و أرباب الإستتابة كل ذلك,
و عندما مسكوا عليه شيء, أي شيء و إن كان مُجرد وهم, تلفظت ألسنتهم بالكراهية و البغض و طالت الإتهامات كل شيء,
فمازال العملاء يُحاربون العملاء..
و بغض النظر عن كل تلك الحروب الوهمية, من الواضح تماما أن هؤلاء الكهنة ليس عندهم أصل
***
في جلسة الإستتابة الأخيرة طلب مني أن أتوقف عن هذا العبث الذي أقوم به,
و طلب مني الذهاب لصندوق الإستفتاء لأدلي بصوتي.
وضحت له, أن هؤلاء الذين يدعون لـ(لا) يتم القبض عليهم و يُتهمون بقلب نظام الحكم, و عددت له مقابح النظام الحاكم, و كثرة مفاسده,
فأخبرني بحنق " أن ليس هناك ثمة مُشكلة من منع أي شخص يعترض على الدستور",
ثم أكمل بنفاذ صبر " أنهم يعرفون أن النظام فاسد و يسرق لكنهم يرضون بذلك ", و أكمل, " لو مش عاجبنا نمشي و ما نعشي معاهم "
ثم جاء موعد الإستتابة فقال : بكرة تفهم.
***
في العصور الوسطى, عندما ابتدع كهنة و رهبان الكنيسة الكاثوليكية " صكوك الغفران " و باعوها للناس ليحصلوا على المغفرة, لم يُغفر لهؤلاء الذين اشتروها, و لم يتوقف بائعوها من رجال الدين عن الفساد و المفسدة
و حاربهم مارتن لوثر, و فضحهم,
و كان مما قال
(أن الإيمان هو خير وسيلة لتخليص الروح، وأن التبرير يكون بالإيمان وحده)
و نحن نؤمن بأن العدل هو الطريق الوحيد لإستقرار الأمم و رقيها, و أن الحرية هي القيمة الإنسانية الأولى, و أن الظلم و السكوت عنه هو طريقٌ ممهدٌ للخراب.
و نُؤمن كذلك بأن استتابتكم باطلة, و صكوك غفرانكم لا تأتي بها مغفرة.
No comments:
Post a Comment